رد السفير الفلسطيني على مقالة إران كوهين
بعد تفكير طويل ونقاش مع زملائي في المكتب، ونصائح حول كيفية الحفاظ على رباطة جأشي، قررتُ أخيرًا الرد على أكثر النصوص إثارة للاشمئزاز، وفظاظة، وعنصرية، وخطورة على الإطلاق كُتبت باللغة اليونانية في الصحافة القبرصية. وقررتُ الرد بإيجاز، لثلاثة أسباب.
السبب الأول يتعلق بصحيفة “فيليليفثيروس”. عندما أتيتُ إلى قبرص سفيرًا لفلسطين، لاحظتُ غياب القضية الفلسطينية عن وسائل الإعلام.
تواصلتُ مع جميع وسائل الإعلام، بما فيها “فيليليفثيروس”.
وللأمانة، استقبلوني بحفاوة بالغة. كانت أول مقابلة لي في قبرص مع هذه الصحيفة.
أُقدّر الاحترافية العالية التي يتسم بها الإعلام القبرصي، وأحافظ على علاقات ممتازة مع الجميع. مع ذلك، لا يسعني إلا أن أشير إلى ملاحظة صغيرة، لكنها جوهرية.
نصيحة متواضعة لـ”فيليليفثيروس”: لا تسمحوا للأشخاص الخطرين بالتسلل إلى صفحاتكم، أيًا كان مصدرهم. هذا لا يُشرفكم ولا يُقدم لكم أي فائدة.
السبب الثاني يتعلق بالجالية الفلسطينية في قبرص ووجودها الكريم.
منذ اليوم الأول لوصولي، كان لقائي الأول مع أبناء هذه الجالية. وعدتهم بأن لا كذب ولا إهانة ولا فظاظة تمر دون رد. وخاصةً من أشخاص مثل السيد كوهين، “محاسب قانوني” كما يسمي نفسه، ولكنه في الحقيقة عدو لدود لفلسطين.
السبب الثالث يتعلق بالمجتمع القبرصي والهيلينية. درستُ وعشتُ في اليونان لعدة سنوات، ويمكنني القول بيقين إنني أعرف كلا المجتمعين اليوناني والقبرصي.
أعرف مدى تحصينهما الديمقراطي والحضاري ضد ظواهر العنصرية وكراهية الأجانب.
خلال دراستي في الجامعات اليونانية، لطالما أعجبتُ، وما زلتُ، بالهيلينية، التي منحت البشرية الحضارة والديمقراطية والحرية والمُثُل العليا التي لا تزال تُلهم العالم أجمع.
يا سيد كوهين، أنت تدّعي دورًا لا يليق بك، بخطابٍ خطيرٍ ومسيء. اخترتَ أن تصبّ السمّ، تحت ستار “الخطاب العام”، ليس فقط ضد شعبنا، بل ضد الإنسانية جمعاء.
يُدهشني جرأتك، ومن أين لك الشجاعة لتوجيه أصابع الاتهام إلى القبارصة، وإعطائهم دروسًا في كيفية معاملة الفلسطينيين والمهاجرين عمومًا. من عيّنك منارةً أخلاقيةً لقبرص؟
من أين لك هذه الغطرسة؟
التاريخ لا يُكتب بمحاسبين قانونيين يُروّجون للدعاية، بل بالدم والذكرى والكرامة. وفي هذا التاريخ، فلسطين حاضرة.
أُذكّركم بأن في بلدي أكثر من عشرين جامعة. لدينا علماء وأطباء وشعراء وأساتذة جامعات، أشخاصٌ يبنون المستقبل رغم الدمار. أنتم، على العكس، تعتمدون فقط على الكراهية والتشويه لبناء روايتكم الخاصة.
وللتوضيح: وجود الشعب الفلسطيني ليس محل تفاوض. أنتم لا تملكون المكانة الأخلاقية أو التاريخية الكافية للتشكيك فيه.
شعبنا يواصل العيش والتعليم والإبداع، حتى في أصعب الظروف. أنتم، على العكس، تعتمدون فقط على الخوف والأكاذيب لدعم حججكم.
أنتَ ودولتكَ، إسرائيل، ترتكبان إبادةً جماعية. تستخدمان التجويع سلاحًا، وحوّلتما غزة من سجنٍ مفتوح إلى مقبرةٍ جماعية. قتلتما، ولا تزالان، عشرات الآلاف من الأبرياء، بمن فيهم آلاف الأطفال.
والآن، وأنتَ تشاهد انهيارَ روايتكَ الصهيونية، ورؤيةَ نصفِ وزراء حكومتكَ مطلوبينَ بتهمةِ جرائمِ حرب، بدءًا من رئيسِ وزرائكَ، من المفهومِ أن تفقدَ أعصابكَ.
يبدو أن فقدانَ سلطتكَ يُسبّبُ لكَ نوباتِ هستيرية، تُعبّرُ عنها في مقالاتٍ بغيضة، دون أيّ أساسٍ تاريخيّ أو أخلاقيّ.
إن تعميمَكَ بأنَّ مليوني شخصٍ في غزة “إرهابيون” يكفي لإدراجِكَ في القائمة السوداء للسخافةِ واللاإنسانية.
لن أخوض في تفاصيل الرد على كل هراء. يكفي القول إن مقالك يُشبه نقاشاتٍ ثرثارة حول طاولة في مقهى الحي، بعد منتصف الليل بقليل.
حيث يخلط البعض بين التاريخ والجغرافيا والفيزياء والكيمياء وانعدام الأمن الشخصي، ويظنون أنهم يقولون شيئًا عميقًا، بينما هم ببساطة يُعرّضون أنفسهم للخطر.
أما بالنسبة لهراءك حول عدم وجود تاريخ فلسطيني، وأننا لم يكن لدينا وطن، ولا ملك، ولا جائزة نوبل… دعني أذكرك، مع أنني أشك في اهتمامك بالحقيقة، أن الزعيم الوطني للشعب الفلسطيني، ياسر عرفات، مُنح جائزة نوبل للسلام عام 1994مع رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، إسحاق رابين.
نعم، لقد فازا بجائزة السلام معًا. كلاهما دفع حياته ثمنًا لإيمانهما بالسلام.
اغتيل رابين بدم بارد في تل أبيب على يد إسرائيلي يميني، أمام أعين العالم، واتهمت زوجته رئيس وزرائك الحالي، بنيامين نتنياهو، علنًا بأنه المحرض.
أما عرفات، فقد سُمّم على يد المخابرات الإسرائيلية. إلى هذا الحد تتسامحون مع السلام.
لقد تحدثتَ أيضًا عن “الهوية الفلسطينية” الغائبة.
دعني أذكرك إذًا بشيءٍ ربما تُفضّل طمسه: غولدا مائير نفسها، رئيسة وزراء إسرائيل السابقة، صرّحت علنًا بأنها كانت تحمل جواز سفر فلسطينيًا حتى عام 1948، تاريخ قيام دولة إسرائيل بعد قرار الأمم المتحدة الجائر بتقسيم فلسطين. لكن فلسطين كانت وما زالت موجودة.
لها أرض، واسم، وشعب، وتعليم. وحتى قبل قيام دولة إسرائيل، كانت الهوية الفلسطينية حاضرة، بشعبها، وثقافتها، وشعرها، ومقاومتها.
أما أنتم، فماذا لديكم من ذلك سوى الجدران والصواريخ والحصار وتشويه صورتكم دوليًا؟
تتحدثون عن فلسطين كما لو كانت تهديدًا. بينما كنتم أول من لجأ إليها بعد اضطهاد أوروبا.
وعندما طردتكم أوروبا، قبلتكم فلسطين. ورددتم عليها بالاحتلال والعنف والكراهية. والآن، هل تريدون أن تعلمونا التاريخ؟
أن تعطينا درسًا في الديمقراطية والإنسانية؟
كلا يا “سيد” كوهين. نفاقكم لا يتوقف عند هذا الحد.
تتحدث عن الرهائن الإسرائيليين وتصف غزة بأنها “وكر للإرهابيين”. دعني أخبرك أن هناك اليوم أكثر من 11,000 فلسطيني مسجونين في السجون الإسرائيلية، من بينهم أطفال ونساء وصحفيون وطلاب.
كثيرون منهم دون محاكمة. إنهم ليسوا سجناء. إنهم رهائن نظام احتلال يستخدم السجن كأداة لتخويف ومعاقبة مجتمعات بأكملها. يبقى السجناء الفلسطينيون الموتى في الثلاجات. لا يُسلمون للدفن بل “يقضون” عقوبتهم حتى بعد الموت.
منذ عام 1969، تُحفظ عظام الموتى في “مقابر الأرقام”، بلا اسم، بلا قبر، بلا حق في الذاكرة. غزة ليست “مسرحًا للحرب”. إنها مكان للمذبحة العقيمة، مقبرة جماعية أُنشئت بتسامح أولئك الذين يتظاهرون بالحياد.
والأكثر استفزازًا: أنتم تحاولون وصف كل معارضة بـ”معاداة السامية” لإسكات الحقيقة. لكن خطابكم هو أحدث وأخطر معاداة للفلسطينيين.
فلسطين تُدين جميع أشكال العنصرية ومعاداة السامية. لكنكم تحاولون استغلال جراح التاريخ لتبرير جرائم جديدة.
وأخيرًا، عن حبك لقبرص: أتمنى ألا تحبها كما أحببت فلسطين. فحيثما يستقر حبك، لا يبقى شيء قائمًا.
هذه كلماتي وأفكاري. ليس رغبةً في إقناعكم، لأنكم قررتم منذ زمنٍ طويلٍ أيّ جانبٍ من التاريخ تريدون الوقوف معه، بل لأن لديّ واجبًا تجاه الشعب الفلسطيني، وتجاه أصدقائنا القبارصة، وتجاه الحقيقة نفسها.
المصدر: Philenews
تستطيع الدخول للخبر في الجريدة الرسمية بمجرد الضغط على هذا الرابط:-
يرجى ملاحظة أن جميع المواد المعروضة في “موقع فلسطينيو قبرص” محمية بحقوق الطبع والنشر وقوانين الألفية الرقمية لحماية البيانات.